رحل سمير فريد، فهل من سبيل إلى تقبل الأمر شخصيًا سوى في إطار أنه خطوة على طريق تفهم معنى اليُتم؟ أمد الله في عمر والدَيّ ومتعهما بالصحة. أصبح لدي قدرة أكبر على تفهم معنى الأبوة بعد أن أصبحت أبًا منذ أكثر من ثلاث سنوات. أتفهم الآن الكثير من مواقفهما وأصبح لدي تفسيرات للعديد من ذكريات الطفولة التي ظلت مبهمة لسنوات. لا يوجد تعريفًا جامعًا مانعًا على حد علمي. أقرب ما قرأت عن العلاقة العادلة الصحية بين الأهل والأبناء هي ما كتب جبران خليل جبران في كتابه "النبي"، والذي تُرجم مطلعه إلى العربية في أحد الترجمات ليكون "أولادكم ليسوا أولاداً لكم ، إنهم أبناء وبنات الحياة المشتاقة إلى نفسها" قابلت الأستاذ سمير فريد لأول مرة في عام 2008، في نادي السيارات بوسط البلد في القاهرة. قدمني له المايسترو شريف محيي الدين لأول مرة لأبدأ العمل معه كمنسق لبرنامج السينما في إدارة مركز الفنون بمكتبة الإسكندرية. كان محيي الدين هو مدير مركز الفنون في هذا الوقت بينما كان فريد هو مستشار المكتبة لشئون السينما والقائم على برنامج العروض السينمائية الشهرية ومطبوعات السينما منذ افتتاح المكتبة عام 2002. في هذه الليلة، قام الأستاذ بتسجيل رقم تليفوني، وأخبرني أنه لا يرد على أرقامًا لا يعرفها عادة. يومها شعرت بقشعريرة. فهمت أنه منذ ذلك اليوم سوف يكون لدي القدرة ببساطة على التواصل بشكل مباشر مع الأستاذ. كان في ذهني عناوين عشرات الكتب ومئات المقالات التي طالعتها وكانت مذيلة بنفس الإسم الذي كنت أسجله في تليفوني في تلك اللحظة. ولكن لم يكن في ذهني هذا الكم الهائل من المشاعر الذي ترجمه جسدي إلى دموعًا منهمرة على مدار أيام مع رحيله. دموعًا اختلطت بتراب مقابر الإمام الشافعي وأنا أودعه مع العشرات من الباكين المحبين يوم الثلاثاء الماضي إن كم المعرفة السينمائية المهول الذي حصلت عليه بشكل مباشر منه، عبر عملنا المشترك في مكتبة الإسكندرية أو عن طريق قراءة كتبه ومقالاته ومشاهدة حواراته الحية والمسجلة، لا يفوقه سوى كم المعرفة الإنسانية العميقة التي انتقلت إليّ عبر مواقفه الشخصية النبيلة معي ومع آخرين. كان صديقًا وأبًا في آن. عايشت معه ترجمة فعلية لنص جبران. كما نهلت دروسًا في فن الحوار والفضول للمعرفة والقدرة على التواصل مع من هم أصغر سنًا وأقل إدراكًا. تمنيت في لحظة أن أستطيع ترجمة علاقته بي إلى علاقتي مع ولديّ. مازجًا بين الحب الغير محدود الذي شملني به أبي الحقيقي على مدار طفولتي ومراهقتي، بحب المعرفة والقدرة على استقراء الواقع الذي علمني إياهما أبي الثاني سمير فريد بعد أن وارَى التراب جسده، وبعد الدعاء، أقبلت أصافح ولده حسن. بصوت متهدج قلت له أن والده كان والدًا لي. فبادرني بأن هذا هو وما قاله بالفعل والده عني قبل ذلك أثناء حواري مع الصديق كريم حنفي بعد الدفن، أخبرني أنه كان يشعر دومًا أن الأستاذ سوف يكون موجودًا دائمًا. حتى أثناء المراحل المتأخرة من المرض، لم يستطع خيال كريم أن يُمهد لغياب الرجل. كان سمير فريد بالنسبة لكريم ولي وللعشرات من صناع الأفلام ومحبي السينما، بمثابة "الظهر". وجوده سند، بغير حتى أن يفعل شيئًا. كنا مطمئنين فقط لأنه موجود هذا رثائي لمن عددته أبًا ثانيًا لي على مدار سنوات عمره التسع الأخيرة. أما حصر الفراغ الذي سوف يتركه على المستوى الثقافي والسينمائي، وذكر ما كتب وحقق من كتب ودراسات ومقالات، فأتركه لكتابة لاحقة لي ربما ولمن هم أكثر تخصصًا مني من الكتاب والمؤرخين الكبار من أصدقاء الأستاذ وغيرهم. أما أنا فأكتفي بحدادي على والدي الذي لم ينجبني، إلى حين نُشر هذا النص بعدد جريدة القاهرة رقم 873 بتاريخ 10 إبريل 2017
1 Comment
|
BlogArchives
October 2022
Categories
All
|